لم يخطر على بالنا في يوم من الأيام أن نكون من بين الذين سيحدثون الناس عن أسرار الترابط الوثيق بين السياسة الاستباحية والكيمياء الحقلية, وربما نكون أول من يشير للتسمية الجديدة لهذا العلم, الذي سقطت دفاتره من حقائب الأطماع الغربية في دروب الشرق الأوسط, فاستحق أن نطلق عليه اصطلاح (الكيمياء السياسية), أو (Chemipolitics), آخذين بنظر الاعتبار أن لا علاقة له بالتعبير المجازي (كيمياء السياسة) الشائع في الأوساط الصحفية, فالعلم الجديد يجمع بين كيمياء الغازات العضوية الطبيعية, وبين السياسات الاستعلائية والخطط الاستباحية, التي تفننت بها القوى الغاشمة, ولجأت إليها في مساعيها العسكرية والانقلابية والتحريضية لإخضاع الأقطار الغنية بالثروات المعدنية, وبالتالي سرقة مخزونها القومي الاستراتيجي من النفط والغاز.
يعتمد العلم الجديد في تنفيذ مشاريعه الاستفزازية على الأدوات التاريخية الخبيثة التي كانت تمثل الفتيل الرئيس في إشعال الصراعات والحروب التي اجتاحت المنطقة في الماضي البعيد وقلبت عاليها سافلها منذ معارك المناذرة والغساسنة وحتى معارك باب العزيزية على مشارف طرابلس الليبية. فالدين، والتاريخ، والنعرات القومية، والتشرذم الطائفي، والنزاعات المذهبية، والأحقاد والفتن هي الأدوات والأجهزة التي استعانت بها مختبرات الكيمياء السياسية في فرض سيطرتها على مكامن غازات البروبان والبيوتان والبنتان والميثان والإيثان والهكسان. وهي الأدوات التي تسلحت بها الآن لزعزعة الأوضاع في الشرق الأوسط وبات من المسلم به أن التعرف على المواد المستعملة في تلك المختبرات سيكشف لنا أسرار المعادلات والتركيبات والأواصر الكيماوية السياسية ويفتح لنا مغاليق الأبواب الموصدة ويمهد الطريق لفك شفرات الألغاز ويفسر الأحاجي الغامضة بعد أن دوخت العالم العربي وعصفت باستقراره منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
وربما نتعرف من خلال هذا العلم الجديد على وقود المنظمات الإرهابية, وبلدوزرات (الربيع العربي), ونكتشف سر انقلاب قطر ضد سوريا, والتنافر السوري التركي, وقد يقودنا العلم الجديد لاقتفاء أثر التآمر القطري على السعودية, وسنستدل أيضا على مؤشرات التفكك والتمزق في خارطة الشرق الأوسط..
فإذا كان اكتشاف النفط في الشرق, وعلى وجه التحديد في منطقة (مسجدي سليمان) شرق بوشهر قد فعل فعلته وفرض علينا حواجزه الحدودية القائمة على التناحر القومي والطائفي والفكري. فان حاجة الغرب الملحة لغاز العرب ستفرض علينا ما لا نستطيع التكهن به من الحروب والحدود والخنادق وتجلب لنا ما لا نستطيع التكهن به من الدسائس والمؤامرات. وستشهد المنطقة سلسلة من التغيرات على غرار سلاسل التفاعلات العضوية في كيمياء الغازات الطبيعية.
لقد سعت واشنطن منذ عقود للاستيلاء على مكامن الغاز الطبيعي في الخليج ومصر والشام وإيران, وأدركت بحاستها الفطرية الامبريالية الاستباحية ان التحكم بحقول الغاز سيوفر لها مقومات التفوق على الأقطار الصناعية الصاعدة ويضمن لها الهيمنة على مراكز القوة في كوكب الأرض وأدركت واشنطن أن غنائم حقول تركمانستان وأذربيجان والشيشان بعيدة المنال عليها ولا تستطيع الوصول إليها لوقوعها تحت أقدام المارد الروسي فنشرت مخالبها في ربوع العرب المتأمركة وبحثت لها عن متطوع يسهل عليها إجراءات التوغل في الخليج والشرق الأوسط ويمهد لها الطريق الآمن فوجدت ضالتها في أمير قطر الذي كان متأمركا أكثر من الأمريكان أنفسهم. ووجدت في تقسيم المنطقة الطريق الأسهل والأسلم فسعت لبعثرة كياناتها الهشة واستعانت بالتنافر الإسلامي الطائفي (السني الشيعي) و(الإسلامي المسيحي) في تأجيج الصراعات المذهبية بالقدر الذي يجعل إسرائيل في منأى عن المشاكل ويجنبها دوخة الرأس فكان لابد من تفريق صفوف المقاومة الفلسطينية وتشتيتها وبعثرتها، والقضاء على المقاومة اللبنانية وتفتيت قوتها من دون أن تلجأ واشنطن بنفسها إلى التحدث ولو بحرف واحد عن هذه المواضيع. فالخير والبركة في الفضائيات العربية التي جندت نفسها لشن الحملات القاسية ضد كل من يتجرأ بالوقوف بوجه تل أبيب ولو بالهمس من بعيد.
ووقفت (الجزيرة) القطرية في الصفوف الأولى للقيام بهذه المهمة على الوجه الأكمل.
ربما كان أمير قطر أول من اشتغل في مختبرات (الكيمياء السياسية) فقد شهد عقد التسعينات في القرن الماضي خطواته الأولى التي ارتكب فيها أولى حماقاته عندما تآمر على أبيه وطرده من البلاد شر طردة ثم انتقل بعدها إلى الخطوة التالية وباشر على الفور بالتفاوض مع إيران لترسيم الحدود البحرية الفاصلة بينهما وقفز إلى الخطوات اللاحقة وسارع إلى استخراج غاز البروبان والبيوتان من قاع الخليج وتعاقد بعدها مع السوق الأوربية لتصديره بعد تسييله (تحويله إلى غاز مسال) وشحنه إلى أوربا على ظهور الناقلات العملاقة بأسعار تنافسية في محاولة للقضاء على الآمال الروسية.
من المفيد أن نذكر هنا أن معظم الأنظمة التي تورطت في عمليات الكيمياء السياسية أو المرشحة للتورط فيها تتساوق مع بعضها البعض وتتناغم بقواسم تمويهية مشتركة يراد منها ذر الرماد في عيون الشعوب العربية والإسلامية الحالمة بتطبيق القيم والمبادئ السامية حتى صار الزيف والتظاهر بالتدين والتجلبب بجلباب الورع والتقوى هما الشعارات الرسمية التي تجمع الأقطار المنتجة للغاز الطبيعي في التركيبة الأمريكية الموحدة وبالصيغة الإسرائيلية الشاملة.
ففي الوقت الذي تتعمد فيه تلك البلدان إظهار نفسها وكأنها هي الوصي الشرعي على الأمة الإسلامية وتتظاهر دائما وكأنها على خلاف عميق مع الكيان الصهيوني نراها هي نفسها من يحتضن الفيالق الأمريكية وهي التي تقيم على أرضها القواعد الحربية الجبارة وهي التي تمنح التسهيلات السخية لفلول الجيوش الغازية التي انتهكت حرمة الديار العربية والإسلامية فضلا عن كونها هي التي ترتبط بعلاقات متينة مع تل أبيب في السر والعلن. أنها حالة فريدة من التناقضات التي لا يقبلها العقل ولا يصدقها المنطق لكنها موجودة على أرض الواقع واستطاعت أن تحقق أهدافها وتسيطر على عقول الناس.
وهكذا وقف وعاظ السلاطين والعملاء والجواسيس والمتآمرين على خط واحد مع الجيوش الامريكية والأجهزة المخابراتية الإسرائيلية.
فتمددت قاعدة (العديد) في قطر بالطول والعرض في زمن جيفارا الجزيرة المتمرد على الأمير الطيب وتوسعت قاعدة (انجرليك) في تركيا في زمن السلطان الطيب أردوغان المتمرد على معلمه (أربكان) فكان غاز البيوتان في قطر وغاز البروبان في تركيا هو الوقود الذي أشعل نيران التمرد وحرك توربينات العصيان في أنقرة والدوحة وهو الشريان الذي غذى ضمائر الاندماج تحت مظلة البيت الأبيض.
يعد خط (نابوكو) هو القنطرة الأسطورية التي ستعبر فوقها الولايات المتحدة الامريكية لتصل إلى سقف العالم ومن المفيد أن نذكر: أن هذا الخط يجمع غاز المنطقة من مصادره الغنية ويسمح له بالمرور عبر الأراضي التركية في طريقه إلى أوربا مع تجنب المرور بالأراضي الروسية واليونانية لأسباب سنتحدث عنها بالتفصيل في مقال آخر. لكننا نريد أن نلفت انتباه القارئ الكريم إلى بعض البديهيات الثابتة في علم الكيمياء السياسية والتي يمكن الاستعانة بها في حل الغاز الشرق الأوسط وفك الاحجيات المستعصية على الفهم فالغاز هو الوقود الذي يحرك مراجل الأزمات كلها ويفجر الأوضاع في البلدان العربية على وجه الخصوص فالبلد الذي ليس فيه غاز ليست فيه مشاكل والعكس هو الصحيح وتنطبق هذه البديهيات على جميع البلدان الغنية بالغاز من دون استثناء حتى صار الغاز هو المركب الكيماوي الذي يرسم الخطوط العريضة للتدخلات الامريكية المنظورة وغير المنظورة وهو الذي يعطي المبررات لسماع التصريحات القطرية أو التركية ويفسح المجال لتواجدهما في الأماكن الغنية بالغاز وهو الذي يحفز ترددات قناة الجزيرة لتصنع أفلامها الخنفشارية وتبث برامجها المفبركة وتذيع أخبارها الملفقة حتى صار الغاز هو المغناطيس الذي يجذب أمريكا وزبانيتها وفيالقها الحربية والإعلامية.
فالغاز هو الذي يفك شفرة الألغاز والحقول الغازية هي التي جلبت الجيوش الغازية وحذار من تسرب غاز قطر فالخطر كل الخطر يأتي من جزيرة قطر.
جريدة المستقبل / بغداد / 27/12/2011
كاظم فنجان الحمامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق