مرَّ الخبر الذي بثته جميع وكالات الأنباء قبل أيام من القاهرة، عن إعادة شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيّب، لجميع الرواتب التي تقاضاها خلال سنة كاملة، منذ تعيينه في مارس 2010، وحتى الآن، مرور الكرام، ولم ينتبه إليه أحد أو يتعامل معه بالشكل اللائق.
المصيبة، ليست في أن فضيلته أعاد رواتب 12 شهراً للدولة لأنه "قليلة"، أو أنه "طالب بأن يكون مرتب شيخ الأزهر على الأقل، يعادل مرتب موظف في بنك "من إياهم" وليست في الخطاب الذي أرسله الشيخ الطيّب، لوزير المالية، ومرفق به شيك بمجموع رواتبه، لأنه أراد أن يتبرّع بها، وليست في قوله إنه يرغب "في القيام بدوره في خدمة الأزهر الشريف ومجال الدعوة الإسلامية دون الحصول على أجر عن ذلك".. كنوع من تقليد رؤساء وزعماء عالميين، رفضوا أن يتقاضوا مرتباتهم من الدولة، لكن الفضيحة، في أن مجموع ما تقاضاه شيخ أعلى مؤسسة دينية في مصر، والمسؤول عن أكبر مدرسة إسلامية في العالم، وطيلة عام كامل كانت 37 ألفاً و647 جنيهاً، أي أن معدل راتب شيخ الأزهر الشهري بالضبط 3137.25 جنيه مصري فقط لا غير!
أخذت أقرأ الخبر أكثر من مرّة، وأحاول التمعّن في الرقم، لأتأكد أن ليس به أي خطأ، أو أنه كما يفعل كثيرون منا، يقلل من أجره تهرباً من الضرائب، ولكنها الحقيقة المؤسفة والمخجلة والتي تصعق أي شخص، لا يمكنه أن يتخيّل هذا المرتب الهزيل جداً، في دولةٍ يأخذ فيها لاعب كرة الملايين، وتأخذ فيها راقصة "نص كم" أضعاف أضعاف هذا الرقم، في وصلة اهتزازٍ مبتذلةٍ لا تتجاوز السّاعة، بل ربما كان يأخذ فيها أصغر "ساعي" في مكتب وزير، من وزراء "الهبش" أكثر من هذا المبلغ!
تذكرت يوماً رأى فيه أديب مصر العظيم الراحل، توفيق الحكيم، إحدى الراقصات، وهي تركب سيارة فارهة في أحد شوارع المحروسة، ولما سألها وهو الذي كان في سيارة قديمة جداً كيف حصلت عليها، أجابته وهي تضحك ضحكتها "المجلجلة" بأن هذا هو الفرق بين "الأدب" الذي يمثّله هو، و"قلة الأدب" التي تمارسها هي، فانزوى كئيباً مهموماً وهو يرى كيف تحوّلت مصر، وانحدرت، للدرجة التي انفلتت فيها المعايير، واختلّت القيم، منذ عصر الانفتاح و"السّداح مداح" وحتى عصر النّهب واللطش!
حسناً فعل شيخنا الطيّب، ليس لأنه ردّ مالاً رأى أنه في غير حاجةٍ إليه، رغم أنه حقّه الوظيفي، ولكن لأنه أراد من هذا التصرف، أن يرسي للأزهر الشريف مكانةً جديدة تتلاءم ومصر الجديدة، في خطوةٍ أرى أنها تفض العلاقة الرسمية والمشبوهة، ما بين هذه المؤسسة العريقة والدولة، علاقة تؤسس لانتخاب شيخٍ للأزهر، يكون تجسيداً للرأي والنزاهة، وبعيداً عن شبهة التعيين، التي أفقدت العديد من المشايخ الأجلاء هيبتهم، وقللت من مصداقيتهم، وأظهرتهم أمام المجموع العام للشعب، بأنهم مجرد تابعين للدولة، أو بالأحرى لرئاسة الجمهورية، ومعها في السابق أمن الدولة بالطبع.. الذي كان مخجلاً للغاية، أن نجد اختيار شيخ أعرق مؤسسة دينية في مصر وفي العالمين العربي والإسلامي، رهينةً لتقرير ضابط فيها، أو تبعاً لهوى مسؤولٍ ما، أو وفقاً لما يُحبّ هذا أو ذاك!
حسناً فعل الشيخ الجليل، إذ أنه أيضاً بردّ هذا المال، كشف عورة الدولة المصرية في المرحلة السابقة، وهي العورة التي كانت تجعل من إمام الأزهر الشريف مجرد موظف، ربما لأنه شريف، فلن يكون مثل عصابة علي بابا التي رأينا جميعاً كم الفساد المستشري، الذي جعل من موظفين آخرين وفي نفس الدولة، "يلهفون" مرتبات بمئات الألوف وربما الملايين، واسألوا وزراء العهد السابق، وطراطيره، الذي كان أقلهم لا يكتفي بالنهب، والتزوير، ولكنه كان يمارس الدجل والشعوذة، في أخسّ صورها وأسوأ معانيها.
هل هناك من يصدق أن 3137 جنيهاً (أي اقل من 530 دولاراً) هي المرتب الشهري لشيخ الأزهر..؟ ما يعادل 110 جنيهات في اليوم، بينما كان راتب أقل مستشار "ع المعاش" لدى وزير الداخلية السابق حبيب العادلي، "يلهف" ما لا يقل عن 200 ألف جنيه في الشهر، ليس هذا فقط، بل إن أي خادمة فليبينية من أولئك الموجودات في بيوت الطبقة الهاي، لزوم الفشخرة والمنظرة، أشك أنها ترضى بمثل هذا المبلغ!
لقد "كسفت" الدولة المصرية، التي عاملتك كموظف، ولم تقدّر قيمتك، كما لم تقدر أبناءها وعلمائها الأجلاء، وتركتهم يبحثون عن الحد الأدنى من الكرامة، في غير بلدهم.. وتركت خيرة شبابها يتسوّلون الرزق، في بلاد الله الواسعة، ويبيعون "دم قلبهم" من أجل شراء فيزة "حرّة" ليست بالأساس إلا تفضيلاً لهذا النوع من العبوديّة على ما يلاقونه في وطنهم.. وللأسف، شاركهم في ذلك، تجار جشع، ومصّاصو دماء.. مصريّون أيضاً!
محمد هجرس، كاتب وصحافي مصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق