ذهبنا إلى بيت محارب سابق شارك في حرب العراق، جيسي ماكبيث وزوجته لين ورضيعهم المولود الجديد. خدم جيسي كجندي في العراق لفترة 16 شهراً قبل أن يًجرح ومن ثم أًنهيت خدمته من الجيش الأمريكي، وهو الآن عضو في جمعية "محاربو العراق القدماء ضدّ الحرب".
أرسلت في البدء إلى كوريا لإسبوع واحد لإلتقاط جنوداً أكثر، ومنها أرسلنا كلنا الى الكويت ومنها ذهبنا إلى بغداد. عندما وصلت إليه ومكثت فيها، تغيّرت نظرتي للبلاد كلياً. عندما كنّا في الكويت، أعلمونا بمهماتنا وطبيعة أعمالنا كجنود، وأرشدونا بأن نثير الخوف منا في قلب العراقيين. ذلك هو الذي أخبرونا. قالوا لنا إعملوا لتحقيق ذلك الخوف مهما كلّف الأمر. أعلمونا بأن القيادة لن تحاسبنا على أعمالنا تلك، ولن يقوموا بإتهامنا بأي جنحة، بل قوموا بما تحتاجون القيام به ومهما كلّف الأمر لجعلهم يخافونك. أمرونا بأنّ نكون قاسيون معهم. قالوا لنا بأنّنا لسنا هناك من أجلهم، إذ لدينا أهدافنا الخاصة بنا، ولا تعني إتفاقية جنيف شيئاً بالنسبة لنا. إنّ إتفاقية جنيف شيء من الفضلات السياسية. لذا، وعندما سمعت ذلك تسائلت مع نفسي، ما الذي حدث الى تلك القيم العسكرية والكلام الذي جًبلنا عليه؟ ماذا حدث لشعار "نحن نذهب هناك لتحرير الناس" ؟ تبين لي لاحقاً بأن "عملية تحرير العراق" هي في واقع الحال "عملية ذبح العراق".
أتذكّر بعد أن تلقينا تعليماتنا الأساسية، كان قد طًلب منا في باديء الأمر بأن نذهب ونـُخلي المخابئ التي كانت قد قصفت من قبل قواتنا الجوية وبشدة بالغة. وكان علينا أن ندخل الى داخل الملاجىء المدمرة ونتأكّد من موت من فيها، وحتى إن كان قد بقى على قيد الحياة أي نساء أو أطفال أو أي شخص تحت تلك الحطام. فكان علينا أن نقضي عليهم جميعاً وننهي حياتهم ومن ثم نسحب أجسامهم الى خارج الملجأ. كانت هذه الأماكن مثل ملاجئ للحماية من القنابل تحت أرضية الصغيرة، أو حتى سراديب في البيوت. كان معظم المختفين فيها من العوائل، إلا أن مسؤولينا كانوا يؤكدون لنا وجود متمرّدين مختبئين في داخلها، أو إن قوات صدام كانت تتخفى هناك. لذا هبطنا داخل تلك السراديب المدمرة، وكان الكثير من فيها ميتاً، إلا أن العديد منهم كانوا ما يزالون على قيد الحياة، وبجروح فقط. أتذكّر المشي في هناك، أشتمّ رائحة اللحم المحترق، وأسمع الناس يبكون، وأسمع نداء الذين يستجدوننا لمساعدتهم لإعتقادهم بأنّنا كنّا هناك من أجلهم، وأرى جثث الموتى المتعفنة. إلا إننا كنا نقتل المتبقين منهم، حتى الذين لم يصابوا بإصابات بالغة. تغيّرت بعد تلك الأحداث الأولية، بعد أن شهدتها، إذ بعد أن قمت بأعمال تؤذي حياة الناس الآخرين، شعرت كأنني فقدت الكثير من نفسي أنا. كان هناك على المعدّل، أحيانا أكثر، أحيانا أقل، خمسة أو ستّة أشخاص من الذين بقوا على قيد الحياة بعد القصف الجوي للملجأ، أما من الجرحى أو قد تأذوا قليلاً فقط أو لأنهم لجأوا الى تلك الأعماق لتفادي الإنفجار الرئيسي وحاولوا الإختفاء وراء أي شيء. لم يهمنا ذلك الأمر إطلاقاً، إذ كان علينا قتلهم جميعاً في داخل الملجأ، وبعيداً عن أعين وسائل الأعلام، ومن ثم إخراجهم من الركام.
قالوا لي بأني خائن لقول ذلك، وأضافوا نعوت أخرى. حسناً، إني أشعر كخائن، ولكني أخون كلّ الأشياء التي علّمني إياها الجيش والأعمال التي أجبروني على القيام بها. وبعدم الكلام بشأن ذلك، أشعر بأنني أكون قد خًنت رفقائي في السلاح من الذين ماتوا في هذه الحرب. بعد ذلك، كنّا نقوم بهجمات ليلية على البيوت، وكنا نسحب الناس خارج بيوتهم ونجبرهم على الركوع ومن ثم تقييد أيديهم. ثم كنا نقوم بسوأل رب البيت سؤالا، وإذا لم يتمكن من إجابتنا بما يشفع إستفسارنا، نقوم بقتل طفله الأصغر بطلقة في رأسه، ونستمرّ بإستجوابنا. قد يكون الرجل بريئاً، وقد يمكن أن يكون رجل عادي يحاول أن يحمي عائلته. إلا إذا لم يعطينا جواباً مقنعاً، فإننا كنا نقوم بقتل أفراد عائلته فرداً فرداً الى أن يخبرنا شيئاً. كان ذلك شيئاً رهيباً. أثناء ذلك، لم أكن أحسّ بأيّ شئ، بل كنت أؤدي واجبي فقط. أردت أن أكون جندياً جيداً. ولكني شعرت بالخطأ. قمت أقرف من نفسي، لأنه كان علي أن أرغم نفسي على كره هؤلاء الناس، من أجل أن أتمكن من تنفيذ واجبي. كان عليّ أن لا أعتبرهم كبشر، بل أنظر لهم فقط كهدف، أو كعدو، أو تجريدهم من إنسانيتهم. فقط عندها أتمكن من العيش مع ما كنت أفعله لهم. إلا أني ما زلت غير قادر على ذلك، ومن الصعوبة البالغة عليّ أن أتعامل مع هذا الشعور اللاإنساني، وخاصة بعد أن رجعت الى بلدي؛ إلا أن ذلك التفكير كان السبيل الوحيد لي في حينها لتنفيذ مهامي.
أنا لم أقوم بعد كم قتلت منهم، لكن يمكنني القول بأنه وبيدي فقط من المحتمل كنت قد قضيت على 200 شخصاً منهم، تقريباً. ذلك تقدير أوّلي، وقضيت على الكثير منهم من على مقربة، مثل المسافة بيني وبينك، أو أقرب. عندما كنّا نهجم على البيوت، كانوا قريبون جداً منا، الى درجة أنهم كانوا يشعروا بحرارة بندقيتي على جباههم. لم أكن أطلق النار عليهم من تلك المسافة القريبة، بل كنت أتراجع قليلاً وأطلق النار عليهم. كان علينا أن نخيفهم أولاً، ولربّما نقوم بضربهم، أو برفسهم، أو بضرب الزوجة، أو حتى قيام بعض جنودنا بالتحرش بزوجاتهم من أجل إغاظتهم لكي يبوحوا لنا بشيء. كنا نهجم في الليلة الواحدة على بيوت متعدّدة، ونقتل حوالي 30 أو 40 شخصاً من النساء والأطفال في تلك الليلة. أنا لم أتطوع للخدمة العسكرية لقتل النساء والأطفال. لقد تدرّبت في المدرسة العسكرية لمدة 18 شهر. أنا لم أرد القتل، من أجل فقط القتل. أردت تحدياً عسكرياً، أردت محاربة الجنود الآخرين. إلا أنني أجبرت على محاربة النساء والأطفال والناس الأبرياء والذين لا يعرفون كيف يحاربون. لقد أصبت بإحباط وخيبة أمل في بلادي حقاً، وفي حكومتي، لكنّي لم أقل أيّ شئ في حينها لأني كنت سأتعرض للسجن والمحاكمة العسكرية إذا تكلّمت أثناء وجودي في الخدمة الفعلية.
والآن، وأنا أنظر للوراء، أدركت بأننا نحن الإرهابيين. نحن اللذين قمنا بترهيب بلادهم، و نحارب شعباً كاملاَ من الناس الذين لم يقوموا بعمل أي شيء خاطيء ضدنا. لم يكن للعراق أي علاقة بهجوم 9/11 . لم أكن أعرف ذلك في حينه، وإنما أعرفه الآن. أشعر بأن موت رفاقي المقاتلين و معاناتي، ولكلّ الجنود هناك، كان لأجل شيء تافه، كان من أجل التغطية على الأكاذيب، ولهذا يصعب علي الآن العيش مع هذه الحقيقة. ولهذا أتكلّم، إذ أشعر أنه بكلامي هذا أقوم على الأقل بعمل شيء لتبرير الموتى. الكثير من العراقيين لم يريدونا هناك. كنا نقوم بإطلاق النار على المحتجّين لأننا أُخبرنا بأنّهم كانوا مسلحين، سواء كان أو لم يكن لديهم سلاح. كانوا يقولوا لنا :"لديهم سلاح، عليكم أن تهجموا عليهم وبعدها سنجد السلاح معهم". إلا أننا لم نجد أي سلاح معهم بعد قتلهم. كان آمرنا يطلب منا إطلاق النار حتى على الأطفال الذين كانوا يرموننا بالحجارة، أو على متظاهرين يرفعون لافتات إحتجاج أو يقومون بإحراق الأعلام. كانت مهمتنا أن نقتل، نقتل، نقتل. أتعرف ما الذي يتندرون به الآن: "ماذا يجعل العشب الأخضر ينمو؟ الأحمر القاني". لذا فلقد خاب أملي في بلدي. أنا خجلان من خدمتي في العراق. والسبب الذي ألبس هذه القبعة وأذهب إلى هذه الإجتماعات هو لكي أتمكن من الكلام وقول الحقّ ولكي يعرف ناس بأنّني كنت هناك وأنا خجلان من إضطراري إيذاء ناس أبرياء. أنا خجلان من الإشتراك في واحد من أشنع الأعمال التي قامت حكومتي بشنها.
بينما كنت في العراق رأيت حفر أرضية واسعة مُلأت بالأجسام المحروقة أو المدفونة. كيف تمكنوا من إخفاء ذلك عن بقيّة العالم؟ كيف يخفون كلّ تلك الوفيّات والكثير منهم أبرياء؟ إنها فعلاً إبادة جماعية. بلادنا أصبحت إرهابية، ولهذا يكرهنا الناس. أنا أحبّ بلادي، ومستعد أن أموت من أجل بلادي في أيّ يوم؛ لكنّي لن أموت من أجل رئيسنا، ولن أموت من أجل حكومتنا. إذا كان ويجب عليّ أن أحارب ثانية، فإن ذلك سيكون من أجل طرد ذلك المتسكّع خارج مكتبه. أنا متعب من العراق. أنا متعب من كلّ هذه الوفيّات، ومشاهدة كلّ هؤلاء الناس، وأشعر بالمرارة لأني كنت مشاركاً فيها. أتذكّر هذا الحادثة هناك، لعائلة. بعد أن هاجمنا بيتا، وجدنا فيه سيدة وهي تحتضن أطفالها الصغار الثلاثة. احدهم كان بعمر السنة، أكبر سنّا قليلاً من إبني، وطفلان بعمر الخمسة أو لربّما سبعة سنين. لم يكونوا كبار السن مطلقاً، وكانت تحتضنهم وهي كانت جالسة على الأرض بيد يغطيها الدم من جراح إحد أطفالها. رأيتها أنا أولاً. إستنجدت بي وتوسلت بي لحمايتها وإنقاذ أطفالها. لكنني لم أفعل ذلك، بل قتلتهم كلهم، لأنه كان عليّ أن أفعل ذلك. ولا يمر يوماً الآن بدون أن أتأسف على ما فعلت بتلك العائلة. أفكر عندها بإبني كثيراً. ما إذا كان ذلك إبني، وإذا جاء أحد وقتل عائلتي؟
على الرجال الذين يدخلون الجيش هنا، أن يقوموا بثورتهم الخاصة داخل الجيش، وهنا في أمريكا. أنصح بذلك. إذا تريد الكفاح من أجل هدف نبيل، فكافح من أجل قضية إنسانية. لا تكافح من أجل حرب على المال أو على النفط أو الحرب للسيطرة على كامل الشرق الأوسط. قامت هذه هذه الحرب من أجل المال، والجيش ليس كما هو كان عليه. لقد خاب أملي في جيشي، وخاب أملي في بلادي. أنا متعب من كلّ شيء، من كلّ الأكاذيب. إنهم الآن يريدون القيام بغزو إيران؛ وهم الآن يطبلّون من أجل حرب أخرى. سنصبح محاربي إيران القدماء ضدّ الحرب؛ وسنصبح محاربي سوريا القدماء ضدّ الحرب، أو محاربو السعودية القدماء ضدّ الحرب، أو محاربو الصين ضدّ الحرب. من يعرف إلى أي مدى سيذهب بنا هذا المعتوه؟
إن الكثير من المحاربين في الجيش هناك قد سئموا من الحرب، وهم لا يريدون إطالة الحرب. كل ما يحتاجون إليه هو بضعة رجال خيرين هناك لحمل علم المعارضة وتحشيد بقية الجنود خلفهم، وسنتمكن من إيقاف هذه المأساة. إنّ الحكومة جاهدة في كم أفواهنا لكي لا نـُسمع، و لا تذيع أجهزة الإعلام الرئيسية النقاط التي نطرحها. أنا أتكلّم كثيراً ولكنهم لا يذيعوا الكثير من المادة التي نتحدّث عنهم، بل يحجبوها. إنهم يذيعون فقط تلك المواد التي يريدون للناس أن يسمعوها. يريدون إسكاتنا. علينا أن نتحرك، علينا أن نجد الناس الذي سيستمعون لنا ويذيعوه على الملأ، مثل قناتكم في (إنديميديا)، لأنكم تريدون سماع الحقيقة وإيصالها الى الناس لحشدهم وراء الحقيقة. أنا أنتمي الى بلدي، وإذا إستدعى الأمر لقيامي بحمل العلم وأُقتل من أجل بلدي، فسأفعل ذلك لوضع حداً لهذه الحرب، لأنها بحاجة الى أن تتوقف الآن، من أجل عائلتي، ومن أجل بقيّة العالم. نحن لسنا بحاجة إلى أن نكون هناك. نحن لا نريد أن نكون هناك. رجعونا الى أمريكا. رجعونا الى بيوتنا."
مدونة أسكي جروب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق