بدأ النضال البوسني مسلحا بعشرات
الرجال، ليصل بأقل من سنة، إلى جيش من البوسنيين مشكلين في 81 فرقة و7 فيالق،
بتعداد زاد حينها عن 200 ألف عسكري. عانت البوسنة كثيرا من حظر السلاح المفروض
عليها دوليا، واعتمدت كثيرا على غنائمها من جيش الصرب والكروات، وعلى الدعم الغير
مباشر من دول كإيران وتركيا وبعض الدول الإسلامية، وعلى تجار السلاح
(الفاقدين لأي حس أخلاقي كما يوصفون بالعادة)، كما كان فيها بعض مصانع
السلاح الخفيف.
يقول الرئيس البوسني على عزت
بيغوفتش، خلال سنوات الحرب الأربعة، كبدنا العدو أكثر من ألف مدرعة ودبابة، والكثير
الكثير من الخسائر الأخرى، هذا مع وجود قصف متقطع لقوات الناتو ضد قوات الصرب
ودفاعاتهم، ومع وجود مناطق وممرات آمنة من أول أيام الحرب، وقوات دولية لحماية تلك
المناطق، ولكن للأسف وصلنا لمرحلة أصبحنا فيها مرتهنين حتى بغذائنا للخارج، وأصبح
السلام(المقبول نسبيا) ووقف الحرب ضروريا جدا، فالبوسنة تحملت أكثر من طاقتها
بكثير، وأصبح عندنا أكثر من 200ألف قتيل وعشرات ألاف الجرحى والمعاقين، وأكثر من
مليون لاجئ، ومئات المدن المدمرة، كل هذا جعل البوسنة أمام استحقاقات كبيرة جدا حتى
بعد تحقيق السلام، ولازالت البوسنة حتى اليوم تعالج تبعات تلك الحرب الوحشية التي
جرت في قلب أوربا.
وتحت تهديد العالم وضربات الناتو
لدفاعات قوات الصرب، وتميز الشعب البوسني في نضاله الأخلاقي، تم إجبار القيادة
الصربية على التفاوض حول سلام لم يكن عادلا للبوسنيين، ولكن كانت مسألة تحقيق
السلام بعد أربع سنوات من الحرب، أمرا غاية في الأهمية لشعب فقد عُشر تعداده فيها.
ما يدفعنا للحديث عن مثال البوسنة،
هو احتمال وصول الأمر السوري لنفس المشهد، وخاصة بعد تصريحات السعودية الواضحة
بدعمها لتسليح الجيش الحر والمعارضة، أي تسليح الشعب السوري عمليا، وتحول شكل نضال
الشعب السوري إلى شكل لا نستطيع فيه، إلا عد جثث القتلى والجرحى والمعاقين.
هل استنفذت الدول الفاعلة والعربية
خاصة، أوراقها كاملة ولم يتبق أمامها سوى تسليح الشعب السوري؟! من المؤكد أنه تزال
هناك أوراق لم تلعبها هذه الدول، والتي تُبعد عن الشعب السوري هذا الخطر المحدق،
وأهمها ورقة النفط والاستثمارات، فلو أعلنت الدول العربية مجتمعة والمملكة السعودية
خصوصا، أن مصالح روسيا والصين في النفط والطاقة مهددة بالخطر، وان كل استثماراتهم
في مجال الطاقة وغيرها مهددة بالتوقف، لما رأينا هذا الموقف المتردي من قبل روسيا
والصين، ولاستطعنا منع استخدام حق الفيتو مرتين في مجلس الأمن على الأغلب، ولكن أن
يُدفع بالشعب السوري نحو هذا السيناريو المسلح والفوضوي جدا والمأساوي، فهذا يعبّر
عن عدم روح المسؤولية تجاه شعبنا، ويجعلنا نخوض معارك الآخرين على أرض أُنهكت من
قبل آلة قتل النظام.
كلنا رأينا كيف جاء المسئولون
الصينيون، زاحفين كالأطفال إلى العربية السعودية، عندما لاحت مشكلة مضيق هرمز، بسبب
خوفهم من نقص إمدادات النفط والطاقة عن بلدهم من قبل إيران في حال تطورت المشكلة،
هذا يعني أن السعودية لديها ورقة لم تستعملها بقوة إلى الآن في الموضوع السوري، وهو
الحل الأفضل لنا وللمنطقة. يجب أن لا يكون التدخل العسكري بهذه الطريقة الفوضوية
والمولّدة لكثير من المخاطر هو الحل، ونحن نعرف وجود الكثير من الحلول البديلة
المتوفرة إلى الآن.
إنّ تعنّت النظام السوري وعدم
اعترافه بثورة عارمة تجري على أرضٍ يحكمها منذ عقود، وعدم قبوله حتى بدخول
المساعدات الإنسانية والصليب الأحمر للمناطق المنكوبة، يستجلب ويُسرّع التدخل
العسكري حتى ولو كان النظام العالمي والناتو مُكرها على هذا الحل، ولم يعد هذا
بعيدا، فالنظام السوري لا يريد أن يُثقَب جداره الأمني أبدا، فهو يعلم أن أي دعم
للثورة السورية حتى في المجال الإنساني، يعني ذلك ثقبا في جداره، وبالتالي زخما
جديد للثورة المنادية بإسقاطه، وسيُجبَر النظام السوري على الرضوخ قريبا، ولكن
العالم العربي أو الغربي ليس مضطرا لتكرار بوسنة جديدة في الشرق الأوسط، ولا يجب
عليه أن يزكي هذا الخيار.
للأسف، وفي ظل عدم وجود القيادة
السياسية الواعية والمجمَع عليها شعبيا، والقادرة على وضع الاستراتيجيات الأفضل
لمستقبل وشكل الثورة، بات مستقبل بلادنا فعلا في يد العالم الخارجي، ونتمنى نحن
السوريون أن يكون أولئك الفاعلون في المشهد السوري اليوم، حريصون على عدم تدمير
الدولة السورية والشعب السوري.
مع كل الحساسية
والتشابه بين الحالتين السورية والبوسنية، أليس من مصلحة العالم أن ينهي الأزمة
السورية؟
يمكننا تسجيل
العديد من نقاط الشبه بين الحالة البوسنية والحالة السورية أهمها:
-
البوسنة كموقع استراتيجي تقع في قلب أوربا، وحساسيتها أن شعبها ذو غالبية مسلمة في قلب أوروبا المسيحية. وسوريا تقع في قلب العالم لو شئنا القول، وحساسيتها أنها بقرب إسرائيل، طفل العالم المدلل.
-
كلا النظامين اعتمدا على عناصر طائفية، فالنظام اليوغسلافي السابق (الصربي الجديد) استطاع كسب الغالبية الصربية لصالحه في قمعه للشعب البوسني، والنظام السوري استطاع كسب الطائفة العلوية بغالبيتها في قمعه لشعبه الثائر، مع وجود أقلية صربية وعلوية استطاعت أن تناضل ضد النظام، إن كان الصربي أو السوري.
-
كلا الشعبين البوسني والسوري،كان واضحا تلكؤ المجتمع الدولي وعدم جهوزية قراره النهائي (إن شئنا) تجاه قضيته، وفي بعض الأحيان كان هناك حديث عن تحايل أو تآمر ضد هذين الشعبين دوليا.
-
كلا الشعبين البوسني والسوري فرضا قضيتهما الأخلاقية فرضا على المجتمع الدولي الغير جاهز لأخذ القرار بشأنهما. فكان واضحا من هو الضحية ومن هو الجلاد.
-
النظام اليوغوسلافي كان امتدادا للشيوعية والاستبداد (وبالتالي للنفوذ الروسي) في قلب أوروبا الحرة الليبرالية، والنظام السوري هو نفس الامتداد الاشتراكي المستبد، وآخر معقل للنفوذ الروسي في المنطقة.
-
في كلا الحالتين، بقي النظام الروسي مع حليفَيهِ مدافعا عنهما وبنفس الحجج الواهية التي نراها اليوم، ونوعا ما كان الموقف الصيني كذلك.
-
لم ينتهي الصراع البوسني الصربي إلا بتدخل حلف الناتو عسكريا، مع وجود مناطق آمنة وحظر جوي منذ البداية، وأتوقع أن النظام السوري يسير على نفس الخطى.
مع كل هذه
التقاطعات بين الحالتين، ألم يحن الوقت للتعامل بجدية وحزم مع الملف السوري؟
كلنا يعلم أن العالم له مصلحة مع
دولة سورية ضعيفة تخلف النظام السوري الحالي، دولة تكون مشغولة بخلافاتها الداخلية،
ولا يكون لديها الوقت للتفكير بإسرائيل وأمن إسرائيل. ولكن العالم أيضا له مصلحة أن
لا تتحول الأرض السورية لمفرَخِة إرهاب، فكل يوم يزيد من عمر الثورة السورية يعني
مزيدا من التطرف ومزيدا من تغير شكل ونفسية الشعب السوري المعتدل على الدوام. لم
تكل سوريا يوما مهدا للقاعدة أو الفكر الجهادي المتطرف، ولكن مع زيادة إحساس الناس
المعرضين للقتل اليومي، أقول مع زيادة إحساسهم بتخاذل المجتمع الدولي وعدم جديته في
تناول الأمور، فإن ذلك سيكون مولدا للكثير من التيارات، وستكون إسرائيل المهدَد
الأول من قبلهم، وليس من مصلحة حلفاء وحماة إسرائيل أن تتحول سوريا لذلك المشهد.
بات الانهيار الاقتصادي وشيكا،
وسوريا بعد الثورة أمام تحديات كبيرة، يستغرق حلها سنوات طويلة، أهمها إعادة بناء
المجتمع السوري سياسيا، ومنها إعادة إعمار المدن التي خربها النظام، والنهوض
بالاقتصاد من نقطة الصفر، ومنها الاستحقاقات التي سيشكلها عشرات آلاف النازحين
والجرحى والشهداء. كل هذا يبعث رسالة قوية للعالم أن يكون تدخله حازما وسريعا
لمصلحة الشعب السوري والمنطقة، وألا يسمح بتكرار مآسي البوسنة.
ناشط سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق