لسنوات طويلة كانت هناك قناعة راسخة بأنَّ التغيير في العالم العربي رهنٌ بأمرين: الأول تصاريف القدر؛ بحيث يرتقي أحد الرؤساء أو الملوك إلى الرفيق الأعلى؛ فيخلفه آخر، غالبًا ما يكون معروفًا سلفًا، أما الثاني فهو إرادة أمريكا؛ حيث إن الرضا الأمريكي يعني ضوءًا أخضر لقمع المعارضين والعصف بأي تحركات مناوئة، وفي ظلّ هذه المعادلة كانت الشعوب العربيَّة غائبة تمامًا عن المشهد، فثورة الشارع لم تكن خيارًا محتملاً، بل إنّ محاولة طرح هذا السيناريو كانت تقابَل بسخرية لاذعة.
ووسط ذلك المشهد المُلْتَهب بدت الولايات المتحدة تائهةً ومذهولة بما حدث ويحدث، وانعكس ذلك على مواقفها المُعْلَنة؛ ففي البداية حاولت مساندة حلفائها في تونس ومصر، والحفاظ على مصالحها مع نظام القذافي في ليبيا، وعندما تصاعدت الاحتجاجات أخذت مواقف واشنطن لهجةً أكثر حِدَّة، لكن لم تلبثْ هذه الحدَّة في التراجع، مفضلة البقاء في المنطقة الرماديَّة، خوفًا من أن تتمكن الأنظمة من إعادة السيطرة على الوضع، وبالتالي تفقد واشنطن امتيازاتها ومصالحها معها، ومع تمكُّن الشارع من فرض إرادته عاودت واشنطن تغيير موقفها مجددًا، لتصطفَّ مع الشارع، مطنطنةً بعبارات من قبيل دعم التغيير والتحوُّل نحو الديمقراطيَّة.
وبالطبع فإن من حق الولايات المتحدة أن تبحث عن مصالحها، لكن هذا التذبذب شكل "سقوطًا أخلاقيًّا" لإدارة أوباما، التي دشَّنت عهدها بالحديث عن تعزيز قيم الديمقراطيَّة والحريَّة ومساندة التغيير السلمي عبر العالم، وفي الدول العربية والإسلاميَّة خصوصًا، لكن هذه الإدارة عندما وضعت على المحكّ فإنها انحازت إلى الأنظمة الديكتاتوريَّة، التي طالما دعَّمتها بدعوى الحفاظ على الاستقرار ومنع استيلاء الإسلاميين على الحكم، وهي فزَّاعة طالما صدَّرها طغاة العرب للخارج، زاعمين أنه لا بديل لهم إلا جماعات العنف وحلفاء القاعدة.
وفاقم من "ضبابيَّة الرؤية" للأمريكيين أن ثورات العرب كانت بلا زعامات معروفة، ففي تونس انطلقت الاحتجاجات بشكلٍ عفوي ثم نجحت النقابات في اللحاق بالثوار واحتضان حركتهم وتفعيلها، بينما بقيت احتجاجات مصر متقدِّمة على كافة الأحزاب والحركات السياسية، وما زال الشباب هم من يُسيِّرون فعالياتها، وفي ظلّ هذا المشهد عجزت واشنطن عن إيجاد قنوات للتواصل مع "محركي الثورات" للتعرف على آرائهم وتوجهاتهم، وبالتالي فإنها بقيت في موقف "المتفرج" تشاهد ما يحدث دون أن تمتلك قدرة على المشاركة في صنعه أو تحديد تَوجُّهاته.
كذلك فإن بند "أمن إسرائيل"، الذي كانت تضعه واشنطن شرطًا أساسيًّا لدعم الطغاة العرب، وعلى أساس الالتزام به كانت علاقتها معهم تزايد قربًا أو بعدًا، بات استمراره- هو الآخر- محلّ شك كبير، فأي حكومة منتخبة ستضع مصالح شعبها في مقدمة الأولويات، كما أنها تدرك أن مصادمة الرأي العام ثمنه الحتمي هو مغادرة مقاعد الحكم، ولذا فإنه على أي سفير إسرائيلي ألا يحلم بالجلوس مسترخيًا على ضفاف النيل بينما طائرات بلاده تقتل الفلسطينيين، كما كان يحدث في السابق، فذلك- على الأرجح- بات جزءًا من ماضٍ كريه.
وتمتد الخسائر الأمريكيَّة لتشمل فقدان صفقات أسلحة بعشرات المليارات من الدولارات؛ حيث إنّ الضغوط الشعبيَّة المتزايدة بدأت بالفعل في إجبار الحكومات على توجيه الجزء الأكبر من مواردها لتحسين أوضاع المواطنين وإطلاق خطط تنمية واسعة لتوفير فرص عمل لملايين العاطلين، وبالتالي فلن يكون هناك مجال لإهدار المليارات على أسلحة تكدس في المخازن، كما ينطبق ذلك على الودائع العربيَّة في أمريكا، المقدرة بمئات المليارات، ومعظمها مستثمر في سندات الخزانة الأمريكيَّة، وهي تدرُّ عوائد هزيلة للغاية، وعودة هذه المليارات بات ضرورة لبناء اقتصاد قوي.
ورغم هذه الخسائر فإن البعض في أمريكا يراهن على مكاسب موازية، فوجود ديمقراطيَّات حقيقية يعني تجفيف منابع العنف والتطرف، وبالتالي عدم تكرار هجمات 11 سبتمبر، كما لاحظت واشنطن باهتمام خلوّ كافة الاحتجاجات العربيَّة، من تونس إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين والأردن، من أي لافتات أو هتافات معادية للولايات المتحدة، أو حتى إسرائيل، وهو ما يعني أن الأجيال الشابَّة تهتم أكثر بمصالح بلدانها، بعيدًا عن الشعارات القوميَّة والإسلاميَّة والاشتراكية، التي قد تقودها لاتخاذ مواقف معادية لواشنطن، كما أن الحكومات الجديدة ستحتاج لسنوات طويلة كي تصلح الأوضاع بالغة السوء التي ورثتها، وبالتالي فمن المستبعد أن تشهد المنطقة في الأجل المنظور حربًا جديدة تستهدف إسرائيل.
مصطفى عياط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق