أدهش المصريون العالم بخروجهم إلى صناديق الاقتراع لكى يدلوا بأصواتهم فى الانتخابات البرلمانية، فى تجربة لم يمارسوا نظيراً لها منذ ما يزيد على 50 عاماً، وفى ظل تحذيرات غالبية وسائل الإعلام من أنها لن تكون ممكنة، وأنها ستكون دموية وعنيفة إذا تم عقدها فى الموعد المقرر.
وهذا أيضاً ما قيل وترسخ قبل نحو 10 أشهر مضت قبل ثورة 25 يناير، حيث توقع الكثير من الخارج والداخل أن نظام مبارك قوى للغاية بما يحول دون نجاح الثورة، وأن المصريين ليسوا من نوعية الشعوب التى تثور ضد حكامها الطغاة، وأن المصريين غير مؤهلين لممارسة الديمقراطية.
وجاءت الانتخابات البرلمانية بمشاركة أكثر من 60٪ ممن يحق لهم التصويت، ومرت بسلام، وعاد الملايين من المصريين إلى الشوارع - مثلما كان الحال فى الثورة - مظهرين تضامنهم وتمسكهم بالحرية والكرامة والعدالة.
وباستقراء التاريخ يمكن التأكيد على أن ما مرت به مصر خلال الأشهر العشرة الماضية هو سلوك طبيعى لبلد بقى رهينة نظام يسعى لبث الفرقة والفساد بين المصريين، لبعث رسالة للغرب مفادها أن بقاء النظام هو الوسيلة الوحيدة لحفظ الاستقرار والسلام فى المنطقة، ولكن بعد الثورة تغيرت الأوضاع وحان الوقت أن نتساءل: «ما الذى يدفع المصريين لمخالفة التوقعات، وما الذى يحمله المستقبل لهم بعد الانتخابات؟».
فى عقود سابقة كتب المفكر الجغرافى المعروف جمال حمدان عن رؤيته التحليلية حول شخصية مصر وعبقرية المكان، وأنا أعتقد أن تفرد مصر بين الحضارات البشرية التى عرفت على مدى التاريخ يجب ألا يُعرف فقط بتقدمها وإنما أيضاً بمدى التفاعل بين أهل تلك الحضارة عبر تاريخها الممتد، فعندما كنت أنمو فى مصر اعتدنا على أن نهتم بتأثير النيل فى شخصية المصريين، بطبيعتهم السلمية والمرحة، ومع أن المصريين - عموماً - تغلب عليهم نزعة التسامح والقناعة إلا أنهم فى بعض الأحيان يبدون كأنهم يميلون إلى السلبية وعدم التغيير، ولعل ذلك يرجع إلى أنه عبر تاريخ حضارتهم التى تمتد إلى آلاف السنين يعد التغيير فى عشرات السنوات شيئاً غير متوقع، إلا أنه من الخطأ الشديد الاستهانة بقدرتهم على تحمل المسؤولية وتقدير متى يكون التحرك لتحقيق الغرض، خاصة إذا تم التوافق على التغيير بشكل جماعى.
ومنذ ثمانينيات القرن التاسع عشر ثار المصريون 4 مرات، بمعدل مرة كل 40 عاماً تقريباً، وحافظت ثورة 25 يناير على الطابع السلمى للثورات، ولكن هذه المرة تكمن العبقرية المصرية ليس فقط فى الثورة نفسها ولكن أيضاً فى اختيار مكان وزمان التغيير.
فالمكان هو ميدان التحرير، حيث يشتق اسمه من «الحرية»، وهو مكان مرتبط بالثورة السابقة فى التاريخ المصرى ومنه يمكن الانطلاق إلى الحرية، كما جاء اختيار يوم 25 يناير، الذى يعد عطلة رسمية فى مصر، لكى يقوموا فيه بالثورة لأنه اليوم الذى تحتفل فيه الشرطة المصرية - التى يقترب عدد ضباطها وأفرادها من مليون شخص - بعيدها السنوى، حيث اتسمت أساليب تعاملها خلال عصر مبارك بالعنف المفرط وإساءة استغلال السلطة، لذا ظهرت دلالة اختيارهم هذا اليوم فى الشعار الذى رفعوه وهو «الشعب يريد إسقاط النظام» فى إشارة إلى إسقاط الدولة البوليسية التى يمثلها نظام مبارك، وذلك تمهيداً لحصول الشعب على حريته الحقيقية.
فى آخر 50 عاماً لم يؤد التغيير فى الحكم إلى ديمقراطية حقيقية، فهل سينجح التغيير هذه المرة؟ أعتقد أن التغيير سيأتى، فمنذ 5 أعوام، وأثناء وجود نظام مبارك وقمة الطغيان، كتبت حول 4 أركان للتغيير فى مصر لتتحول إلى دولة ديمقراطية ومجتمع قائم على المعرفة، وكان أولها هو إصلاح الدستور، وثانيها إرساء دولة القانون، أما العاملان الثالث والرابع فهما متعلقان بنهضة التعليم وإصلاح الإعلام.
ومنذ يناير الماضى، تم رسم خريطة طريق تغيير الدستور، وأهم ما فى تلك التغييرات هو تعديل فترة الرئاسة فى مصر لتكون مدتها 4 سنوات فقط، على أن تقتصر على فترتين رئاسيتين، بدلاً من النص «الفرعونى» السابق الذى لا يضع حدوداً لمدة/ لمدد تولى الرئيس شؤون البلاد، وعلى الرغم من أنه لن يتم الانتهاء من الدستور إلا فى بدايات العام المقبل فإنه من المؤكد أن سلطة الرئيس ستكون محدودة - قياساً بما كانت عليه - وأن نظام الحكم سيشهد مجموعة من التوازنات مع البرلمان المنتخب.
ولاشك أن هناك أموراً معقدة ستكون فى الانتظار فى الأعوام المقبلة، إلا أننى واثق من أن تلك المسائل والتعقيدات سيتم التعامل معها بالطريقة الفعالة والحضارية التى تعامل بها المصريون خلال خروجهم ووقوفهم بأعداد مهولة أمام صناديق الاقتراع.
ويبدو أن الركن الثانى للتغيير تم وضعه على المسار الصحيح، فلدى مصر نظام قضائى محترم ومحترف مهنياً، وخلال عهد مبارك تم إضعاف هذا النظام، وأحياناً التلاعب به، إلا أن غالبية أطراف النظام القضائى بقيت متماسكة وقادرة على إقرار العدالة فى البلاد، وهذا ما ظهر واضحاً خلال المرحلة الأولى من الانتخابات التى جرت تحت إشراف قضائى كامل. ومع إنشاء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية فإننى أثق فى أن النظام الجديد الذى سيسود فى مصر سيضمن حرية التعبير، وسيعمل على إرساء قواعد المساواة بين كل المصريين.
وبدأ الركن الثالث للتغيير فى التحقق جزئياً، فعلى مدار الـ12 عاماً الماضية كنت أجاهد من أجل تحقيق نهضة فى التعليم والبحث العلمى، لكى تتمكن مصر من تبوؤ مكانتها فى العالم الحديث.. وخلال عهد مبارك كان تحقيق هذا الحلم ـ الذى أطلق عليه «المشروع القومى» ـ أمراً مستحيلاً.
وبعد ثورة 25 يناير تغير الوضع وأصبح الحلم واقعاً ملموساً، فالحكومة دعمت إنشاء مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، وذلك لتطوير نظام التعليم المتعلق بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وذلك لدفع عجلة الإنتاج القومى ليكون على المستوى العالمى.
وبالفعل تمكنا من جمع ما يقرب من مليار جنيه للبدء فى العمل فى المدينة التى سيقوم على إدارتها مجموعة متميزة من العلماء والأساتذة من داخل وخارج مصر، بمن فيهم رئيس جامعة كالتك، و6 من الحاصلين على جائزة نوبل، وهذه الخطوة لدعم البحث العلمى تعد ضرورية وملحة على مستوى الدولة ككل، وهى نقلة كبيرة فى مرحلة ما بعد الثورة.
أما الركن الأخير للتغيبر، الذى لم يتم التعامل معه حتى الآن، فهو المتعلق بإصلاح الإعلام فى مصر، فحتى الآن هناك إعلام قومى مملوك للدولة وآخر مستقل مملوك للقطاع الخاص، كما أن القنوات الفضائية التى يربو عددها على الـ100 معظمها مملوكة لرجال أعمال، ولم يتحرر الإعلام حتى الآن من السطحية وسوء الاستغلال، وهو ما يظهر جلياً فى تغطيته للمسائل والقضايا المتعلقة بالدين والدولة، وهو أيضاً يفتقر إلى العمق واتساع الرؤية، لذا يحتاج الإعلام إلى إصلاح شامل، لاسيما مع التأثير الكبير الذى يمارسه، خاصة التليفزيون، على جمهور مازالت فيه نسبة الأمية ليست بالضئيلة، ولكن فى اعتقادى أن مدى تأثير العوامل الثلاثة الأولى سيقود لتغيير الإعلام إلى نوع جديد وصحى ويكون دوره أكثر عمقاً ووعياً.
كل هذا يؤكد أن التغيير فى مصر لا يمكن الرجوع عنه، وأنه لا توجد قوة يمكنها الوقوف فى وجه التغيير إلى الديمقراطية، فـ«حاجز الخوف» انكسر، وميدان التحرير باق للاعتصام فيه، والسماء مفتوحة فى عصر العلم!
بالإضافة إلى ذلك فإننى أعتقد أن شباب الثورة ـ والشعب عامة ـ كانوا سعداء بوقوف الجيش بجانبهم، وحتى الآن. ومن لقاءاتى مع قيادات المجلس العسكرى فإننى مقتنع بأن المجلس العسكرى سينقل السلطة إلى حكومة مدنية وطنية منتخبة، وعلى الرغم من الأخطاء التى تم ارتكابها خلال الأشهر الـ10 الأخيرة، فإن الطريقة الديمقراطية التى تمت الانتخابات بها والرقابة الكاملة للقضاة عليها لا تعكس فقط النوايا الطيبة، لكنها تعكس أيضاً الرغبة فى الوصول لدولة ديمقراطية مستقرة.
أما فيما يتعلق بالقلق المتزايد من استحواذ الإسلاميين على السلطة فأنا لا أجد ضرورة لهذا القلق الذى يصل إلى حد الخوف، فالمصريون أهل إيمان وعقيدة منذ عهد إخناتون، ويشكل الدين لديهم قوة للتوحد والإسلاميين قد يصبحون الأغلبية فى البرلمان المقبل، ولكن يجب ألا ترتعب مصر ويكون كل الحديث فى هذا، فعلينا أن نعرف أن نظاماً ديمقراطياً حقيقياً ودستوراً فعالاً سوف يضمنان للشعب حق المراقبة والقرار لمن يحكم.
إن تحديات المستقبل كبيرة وتتطلب - بجانب التحول الديمقراطى - العمل والإنتاج، فمصر بعد الثورة تواجه الضعف الشديد فى مستوى الخدمات التعليمية والصحية، فضلاً عن الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء ومشاكل أخرى، إلا أن المشكلة الأكثر إلحاحاً هى إقرار الأمن الداخلى، بما يمكّن السياحة والاستثمارات من الفاعلية، وكذلك العمل إسهاماً فى تحقيق الرفاهية الاقتصادية التى يتطلع إليها المصريون فى مرحلة ما بعد الثورة.
ويجب على القيادة المصرية الجديدة أن تضع رؤية للتنمية والانطلاق بالإنتاج نحو العالمية، وهذا لا يمكن تحقيقه دون الانضباط والعمل والوحدة الوطنية، وكذلك التخلى عن المكاسب الشخصية والأيديولوجيات السياسية، وهنا يجب وضع الوحدة الوطنية فوق كل اعتبار لتستقر البلاد وتنعم بنتائج الثورة المجيدة.
فى الأعوام المقبلة يبقى علينا جميعاً أن نستثمر فى «عبقرية مصر»، لنخطو إلى الأمام، وأن نستغل الفرص الناتجة عن ثورة يناير، متحررين من أغلال الأمس، وحان الوقت أن نتسامح مع الماضى، وليس هذا بنسيانه، حتى يمكن أن نشكل المستقبل الذى تمناه شهداء الثورة وينتظره أمل مصر
بقلم :أحمد زويل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق