كتابات - بشرى الهلالي
تعودت التسوق من (أبو سلام) بائع الفواكه والخضار في منطقتنا، واعتمادا على مبدأ الثقة فلا أكلف نفسي القلق بشأن بضاعتي، فأبو سلام يختار لي الأفضل كوني من زبائنه المفضلين لأني لا أتطرق ابدا الى موضوع الأسعار بل أكتفي بسؤاله عن المبلغ الكلي لأسلمه إياه دون فصال.
وفي آخر مرة، فوجئت وانا افرغ الأكياس، بأن نصف الفواكه والخضار كانت تالفة تقريبا، ولم أشغل نفسي بالتفكير كثيرا، فاستغلال الثقة أمر لم يعد غريبا أو جديدا في مجتمعنا، فقد فسر أبو سلام قبولي بكل ما يدسه في الأكياس على انه رضا واستسلام وضعف، لذا كان من الضروري أن أكشر عن أنيابي وأتصرف بقسوة، فأعيد اليه البضاعة كاملة مع شلال عنيف من العتب وأتركه لأتعامل مع بائع آخر.
وما حدث مع البائع يحدث كل يوم في كل مؤسسات الدولة العامة و المؤسسات الخاصة بعد إن صار مسح الأكتاف هو شهادة التخرج، والمديح والتملق شهادة الخبرة، ومحظوظ من كان يمتلك موهبة (جلغ الوايرات) فيتأهل لمنصب (جولة) ليحرق في طريقه الأخضر واليابس، البريء والمدان من أجل الوصول الى أغراضه وتحقيق مكاسب تضمن مصالحه ومصالح رؤسائه.
وربما ينسب علماء النفس والإجتماع والسياسيون ذلك الى الظروف التي مر بها البلد والى الفقر والحرمان الذي تعرض له الموظف والمواطن العراقي لعشرات من السنين، والى كل الطبول التي قرعت على رأس العراقي والتي كانت سببا في تغيير إلأخلاقيات والمبادئ، وقد يشير المتفائلون من الباحثين الى ان هذه الظواهر مرهونة بالوضع السياسي الحالي وانها سائرة حتما الى نهايتها في ظل النشاط المتعثر لكل دوائر النزاهة ومحاربة الفساد الاداري. وتماشيا مع مبدأ التفاؤل والأمل، يظل الموظف النزيه يحلم بيوم يعاد فيه اليه الاعتبار ويلغى قسم (العزل) بعد إن تصبح عدوى النزاهة سارية في أبدان الجميع أو الأغلب.
وهنا يتأرجح سؤال ضيع دربه خلال السنوات الست الماضية، من يحمي مرضى النزاهة في الدوائر والمؤسسات الخاصة؟ ويتحول السؤال الى جرح عندما يطوف فوق سماء المؤسسات الإعلامية والثقافية التي - وكما هو مفترض- مبنية على الموهبة والثقافة والتميز، والتي تحولت في السنوات الأخيرة الى ما يشبه (علاوي المخضر)، ينال الحظوة والربح فيها من يملك صوتا أعلى ليجهر ببضاعته، بينما ينزوي المتميز وصاحب الموهبة بعيدا بانتظار مد قلمه الخجول الى احدى صفحات الصحف والمجلات ليجد عشرات السيوف بانتظار قطع دابر القلم وتقطيعه الى أشلاء، وبالطبع فإن تقويم مرضى التميز والموهبة ماديا يعتمد أيضا على نوع الفايروس الذي يحملونه، فإذا كان المرض مصحوبا بأعراض الأدب والأخلاق واحترام الذات، فيكون مريضا (مثاليا) يتجنب استعراض حدة قلمه امام البعض ممن -لا يحملون حتى قلما، بل (يملكون) اقلاما تكتب لهم- ويحاول قدر الأمكان الوقوف عند أبعد نقطة من مكتب الرؤساء حفاظا على لقمة عيشه لأن مجرد اقترابه من الكرسي أو المكتب قد يعتبر تهديدا لبعض حملة (الأختام) أو الأقلام، الذين يعطرون مكاتبهم بكل أنواع العطور المستوردة والمحلية لتجنب دخول فايروس التميز والنزاهة!
جريدة الناس
مركز النور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق