بـ إشتراكك معنا يصلك كل جديـــد

للإشتراك أدخل بريدك الإلكترونى هنا

استشهاد أسامة بن لادن لن يجلب لأمريكا الأمن

 
رحم الله الشيخ أسامة بن لادن. ترك رغد العيش ومتع الحياة ليعيش مطاردا في جبال أفغانستان، ومتخفيا في قرى باكستان مدافعا عن الأمة ومتصديا للاحتلال الغربي للأمة. اختلف البعض مع القاعدة حول أسلوبها في مواجهة العدوان الغربي والهيمنة على العالم الإسلامي، لكن لا يختلف أحد على أن أسامة أوجع الغرب واستنزف جيوشه لأكثر من عشر سنوات، وسيكتب التاريخ فيما بعد أن أسامة بن لادن شارك في إسقاط الامبراطورية السوفيتية وكان سببا في استدراج الامبراطورية الأمريكية لنهايتها ولملاقاة حتفها.


سيظل أسامة بن لادن - رغم التشويه - رمزا للجهاد ضد الاحتلال الصليبي، وسيظل نموذجا يحتذى من قطاعات من الشباب الإسلامي الساعي لتحرير الأمة من الهيمنة الغربية. وهذا الخوف من رمزيته هو الذي يجعل الأمريكيين يخشونه حتى بعد موته ويرفضون تسليم جثمانه ودفنه في أي أرض حتى لا يتحول قبره إلى مزار. وسط هذا السيل الإعلامي المصاحب لاستشهاد بن لادن يجب ألا تغيب القضية الأصلية وهي أن أسامة والقاعدة وما بعد القاعدة ما هي إلا تجليات لحالة الرفض الإسلامي للوجود العسكري الأجنبي. وهذا الرفض لن يتوقف باختفاء أسامة بن لادن من الصورة، ولا بقتل واعتقال كل أعضاء تنظيم القاعدة. وطالما استمرت الجيوش الأجنبية في أراضي المسلمين سيظهر مجاهدون وجماعات مجاهدة.

وليس صحيحا أن أحداث سبتمبر هي السبب وراء الغزو الأمريكي والغربي لأفغانستان والعراق، كما يزعم الإعلام الأمريكي ومن يدور معه، ومن السذاجة النظر إلى الحروب الأخيرة التي أشعلها الغرب على أنها رد فعل، أو عزلها عن المعتقد والسلوك الصراعي للغرب مع المسلمين. فالعداوة سابقة على هذا التاريخ، حروب صليبية، وحملات استعمارية، وحروب استباقية.


لم يعد مقنعاً سعي الغربيين لمسح ما تختزنه الذاكرة من حقائق حول مسئوليتهم عن الصدام مع المسلمين. إن أحداث سبتمبر نتيجة وليست سبباً، وهي رد فعل من منفذيها. فكل المؤشرات والوقائع السابقة لتفجير برجي مبنى التجارة العالمي كانت تصب حتماً تجاه عمليات من هذا النوع. إنها نتاج طبيعي لتاريخ من الصراع والعدوان. لكن الملفت للانتباه أن الغرب لم يتناس حب الصراع رغم كل ما حدث ولم يتعامل مع الأسباب، وإنما تعامل مع النتيجة. وبدلاً من السعي لإنهاء الأسباب راح يصب المزيد من البنزين على النار. وبدلاً من مراجعة السياسات التي أفضت إلى هذه التفجيرات ذهب إلى الاتجاه الآخر ورفض الاعتراف بأنه السبب، وأنه الظالم وليس المظلوم، وأنه الجاني وليس المجني عليه، وأنه القاتل ومصاص الدم المسلم.

لم يستوعب الغرب الدرس وساقته الرغبة في المصارعة إلى السير في ذات الطريق الذي يولد ردود أفعال ربما أكثر ضراوة. ويبدو أن الغرب لم يعد يسمع إلا إن شعر بأن قوته لم تعد تجدي نفعاً ، ولم تعد تُخيف. وهذا ما بدا من متابعة سير الحرب في أفغانستان والعراق؛ حيث بدأ الغربيون يستوعبون أن خيار الحرب يُسبب خسائر ضخمة وآثاراً معاكسة مؤلمة، لا يحتملون استمرارها فترات طويلة.

لم تبدأ الصحوة الإسلامية المعاصرة أي مواجهة أو صراع مع أمريكا والغرب منذ ظهورها الحديث. بل إن الجهاد في أفغانستان، وتقاطع أهداف الإسلاميين بإسقاط الحكم الشيوعي مع مصالح أمريكا بالخلاص من عدوها اللدود جعل أمريكا تؤيد المجاهدين إلى أن انتهت الحرب. بعد ذلك انقلبت عليهم وسعت لتحجيمهم؛ خشية أن يتمكنوا من إقامة حكومات إسلامية تهدد استقرار مشروع الهيمنة الغربية المفروض بقوة السلاح على المسلمين.

سعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ الثمانينيات لحشد تحالف عالمي للصراع مع المد الإسلامي تحت شعار «مكافحة الإرهاب»، ورصدت ميزانيات ضخمة وشكلت منظمات أمنية وأطراً مؤسسية لتجنيد العالم في معركة المطاردة والمحاصرة. وحرَّضت أمريكا دولاً وحكومات للانخراط معها في هذه الحرب، وقدمت المعونات والخبرات الفنية لتكتيف دول العالم وإجبارها على المشاركة. كما استطاعت الولايات المتحدة إدخال المنظمات الدولية في الصراع، واستخدمت الأمم المتحدة لإصدار التشريعات والمواثيق لإلزام العالم بالتورط في المعركة.

تفوُّق الغرب العسكري أغراه بالعدوان، وتسببت عقلية الصراع في توريط الغرب في مغامرات عسكرية، فوجئ أنها فاقت قدرته على تحمل اتساعها وامتدادها. فمع كثرة اعتداءات الغرب على المسلمين، ظهرت نقاط الضعف لديه، في نفس الوقت الذي تجلت فيه عناصر القوة في الطرف الآخر. وقد ثبت أن الإفراط في استخدام القوة يضعف تأثيرها مع الوقت، ولا تجلب الصراعات النصر دوماً. فلكل قوة طاقة قصوى بعدها تضعف وتتراجع. ويبين تاريخ الأمم والشعوب أن الدول القوية تأتيها فترات تتراخى وتنتهي. ولا يعني استخدام السلاح الباطش دليل قوة، فقد يكون دليل ضعف أيضاً.

إن إدمان الغرب للصراع واستخدامه لأسلحته ضد الشعوب، والدفع بأبنائه للقتال في العالم الإسلامي دليل على التراجع وليس القوة. فالدول الغربية منذ منح الاستقلال الصوري للدول المستعمَرة كانت تمرر سياساتها وتدير العالم بالإشارة. وكانت العلاقات الدبلوماسية كافية لإملاء الشروط وتنفيذ الأوامر. لكن هذه القبضة الاستعمارية والهيمنة بدأت تضعف مع عودة المسلمين إلى الدين، وتنامي نزعة التمرد ضد التبعية، فاضطر الغرب إلى تنفيذ سياسة الحصار الاقتصادي والسياسي «العراق، ليبيا، السودان، وأفغانستان» لكن هذا الأسلوب فقد تأثيره مع الوقت ولم يؤد المطلوب، فبدأ بالاعتداء والقصف من الجو «العراق، وأفغانستان» فاتسع التمرد، فاضطر الغرب إلى الغزو العسكري وتحمل تبعة ذلك من خسائر في الأموال والأرواح.

دفعت روح الصراع الغرب لغزو العراق وأفغانستان لتقديم عبرة وأمثولة لباقي المسلمين، فإذا بالنتائج عكسية. فقد تسبب هذا التقطيع في أوصال الدولتين وتجريب أسلحة الدمار الفتاكة في شعبيهما، وانكشاف الوجه العدائي للغرب، تسبب في ردة فعل في الجانب الإسلامي. أيقظت القذائف والصواريخ المتساقطة فوق المدن المسلمة روح المقاومة وأحيت فكرة الجهاد. وغرقت أمريكا الجريحة بتدمير برجيها في وحل المعارك، ووجدت نفسها متورطة في مستنقع يأكل أبناءها. وتحول النصر السريع في البداية إلى انكسار واستنزاف فيما بعد. وبدلاً من الاحتفال بالانتصار أصبحت الأمنية هي الانسحاب والفرار.


لقد تسببت روح الصراع العدائية لدى الغرب في ولادة روح المقاومة في الجانب الإسلامي، وقوبلت القوات الغازية بروح قتالية لم تكن تتوقعها، ولم تستطع ترسانة الأسلحة الأمريكية كسر عزيمة المقاومين الذين يقاتلون بأسلحة لا تُقارن بما لدى الجيوش الغربية المتحالفة. لم يرهب الهجوم الأمريكي الغربي المسلمين بقدر ما قوَّى قدرتهم على التحمل وامتصاص الضربات وأفقد الجيوش الغازية هيبتها. ومقابل حشود الجيوش الغربية المتدفقة على مناطق القتال، احتشدت حركات المقاومة الإسلامية هي الأخرى، التي تشكلت من جنسيات عربية وإسلامية عدة وكونت جبهة مضادة، وقد تسبب توسيع ساحة الصراع في خروج المعارك عن السيطرة.

إن القدرة على شن الحروب لا يعني القدرة على إنهائها. ربما كانت الصواريخ والقنابل والقصف من الجو مؤلمة للخصم لكنها غير كافية لإنهاء المعركة. فهناك عوامل أخرى تحسم المعارك بجانب الأسلحة والتخطيط العسكري، فقد ظهر العنصر البشري كعامل حيوي في تحقيق النصر. هذا الصمود البشري والتفاني في القتال ربما لا يظهر في بداية المعارك لكن مع استمرار واتساع الحروب التي تحركها عقلية صراعية لا هدف لها سوى قهر الآخرين، تولد عناصر بشرية لا تتأثر بقوة الخصم ولا تبالي بقدرته التسليحية، وتفرض حقائق جديدة تقلب المتعارف عليه في الحسابات الاستراتيجية.


حركة التمرد على أمريكا والغرب أوسع من الإحتواء ولا يمكن اختزالها في شخص أو تنظيم، كما لا يمكن أن تقتصر على أسلوب واحد، فالثورات الشعبية العربية الأخيرة خاصة في تونس ومصر تعد نقلة نوعية على طريق الاستقلال وإنهاء الهيمنة، بالخلاص من الحكومات الموالية للغرب.

إن قتل أسامة بن لادن لا يعني أن أمريكا انتصرت أو أنها ستشعر بالأمن، فالأسباب التي أنتجت بن لادن لازالت موجودة وستقدم غدا زعماء آخرين، وربما جماعات أخرى بأسماء جديدة.



مدونة أسكي جروب

ليست هناك تعليقات:

أقسام الموقع